ازمة الديمقراطية في العراق


ادور اوراها
ان الاجتياح الاميركي للعراق سيقت له ذرائع عدة , منها اقامة دولة ديمقراطية , و اليوم فان الادارة الاميركية تتمسك بمقولة انها انجزت جزءا لا باس به من عملية دمقرطة العراق , و يتناغم مع ذلك ما تروج له الحكومة القائمة في العراق عبر منظومة اجهزتها الرسمية او منظومة الاحزاب المكونة للحكومة, ولكن هذا لا يمثل كامل المعادلة في الساحة العراقية ففي الجانب الاخر نجد فريقا ينادي بان الواقع العراقي الحالي هو ابعد ما يكون عن الديمقراطية ولا يمت لها بصلة , و كل فريق يشتط في طرح تصوره فالاول يصور العراق فردوسا ديمقراطيا و نموذجا يحتذى به و مثالا لكل طامح الى الديمقراطية و ساع اليها , و الثاني يرسم صورة العراق خالية من اي مظهر من مظاهر الديمقراطية , وبين هذا وذاك صار الانسان العراقي مجرد رقم في صراعات و حسابات الطرفين فمن يقول بديمقراطية الواقع العراقي يلوح بجموع العراقيين الذين صوتوا في مناسبات انتخابية سابقة و من يقول بانعدام الديمقراطية يتخذ من الواقع المتردي الذي يعيشه العراقيون اداة للضغط و معبرا للوصول للسلطة, وفي ظل انشغال كل طرف بالتسويق لتصوره عن عراق ما بعد التاسع من نيسان و الدفاع عن هذا التصور بشتى السبل ( المشروعة و غير المشروعة) ضاع المعنى و المضمون من الديمقراطية و صارت تعبيرا كلاميا اجوف و شعارا مزعجا للمتلقي العراقي اكثر من كونه رنانا, وضاع السؤال الكبير .

هل عراق اليوم ديمقراطي؟
هنا لا بد من الاشارة الى ان الاحزاب العراقية المهيمنة نست او تناست المضامين و المفهوم الحقيقي للديمقراطية, او ان القاعدة المعرفية و القيمية التي ترتكز عليها لم ترتقي بعد الى المستوى الذي يعينها على ادراك هذا المفهوم الواسع و الشامل و الحيوي في عملية بناء الدولة العصرية, و لذلك نجدها تخلط بين آ ليات الديمقراطية و اجهزتها من جهة و هذه تمثل البنى و الهياكل الفوقية و بين القاعدة و مادة العمل الديمقراطي , اي الانسان و البتالي المجتمع من جهة اخرى و هذه تمثل البنية التحتية للكيان الديمقراطي, و هذا الخلط يمثل نقطة التلاقي بين الفريقين الذين سبق الحديث عنهما.
ان احزاب السلطة اليوم تستدل على قيام الديمقراطية في العراق من خلال وجود المؤسسات التي ترتبط بها (اي بالديمقراطية) وظيفيا كممارسة, في حين يدفع المعارضون لهذا التصور بعدم استعداد الشعب و عدم استيعابه للديمقراطية , وكلا الموقفين يحملان في طياتهما بعض الصواب, و لكن الابتعاد عن الموضوعية هو الذي يقف عائقا في طريق تلمس الايجابيات و تعزيزها و تاشير السلبيات لتلافيها.
ان مفهوم الديمقراطية لم يمر بالمراحل الطبيعية للنضج في الذهنية العراقية و في الوعي الجماعي العراقي , فقد جاءت الدمقرطة بآليات ووفق جداول زمنية مظغوطة وغير عراقية افترضت المقدرة على اختزال سنوات طويلة من التراكم المعرفي الايجابي و البناء باتجاه ايجاد شخصية ديمقراطية, اشهر او سنوات معدودة , فتمت التعبئة لها بطريقة جعلتها اقرب ما تكون الى ايديولوجية و حولتها من خيار انساني تهتدي اليه المجتمعات عبر مسيرة من النمو الطبيعي لقيم مثل حرية الاختيار و الموقف الرقابي و العلاقات النقدية و كون الانسان هو الغاية, الى منظومة عقائدية تم اقحامها في مساحات العمل السياسي بمعزل عن اي رديف اجتماعي ويتحول فيها الانسان الى أداة, وهذا من اخطر ما تواجهه التجربة العراقية اذ يشكل قاعدة لاعادة انتاج الانظمة الدكيتاتورية المقنعة و التي يتم تجميلها بواسطة بضعة مؤسسات و اجهزة تشكل جزء من مساحة العمل و البناء الديمقراطي و لكنها تعجز عن ان تكون كيانا ديمقراطيا صحيحا و مكتملا وقادرا على الحياة.
ان التجربة السلطوية العراقية القائمة اليوم تتماهى بالانظمة الديمقراطية دون ان تستوعبها بمجملها , فاقتصرت على استنساخ آليات ومفاصل الانظمة و التجارب الديمقراطية دون النظر الى بناها التحتية المتمثلة بالانسان المواطن الديمقراطي فاقتصرت عملية دمقرطة العراق على انشاء بنى فوقية غير مستندة الى اسس بشرية و دون ان تعتمد على قاعدة معرفية , فكان نتاج ذلك تجربة عرجاء فقدت مميزات التجارب الديمقراطية وفي ذات الوقت لم تتوصل الى ان تكون بقوة التجارب الديكتاتورية , وهنا تكمن الاجابة لكل من يتسائل عن سبب هسشاشة و عدم استقرار التجربة في العراق.
ان الانسان العراقي بصفته الوحدة الاساسية في المجتمع ما زال يرزح تحت وطأة سنوات و عقود طويلة من تعاقب انظمة حكم وتحت تأثير بنى اجتماعية و منظومة علائقية مستندة الى نموذج ابوي من حيث التوصيف الاجتماعي و نموذج ديكتاتوري من حيث التوصيف السياسي و الذي هو بدوره اسقاط للواقع الاجتماعي على الواقع السياسي, و من هنا فالانسان في العراق يفتقر الى القدرة على الانتقال من واجب الخضوع الى حق القبول, بل انه يعجز عن التمييز بينهما, و ما اسهم في تعزيز هذا العجز في الفترة الاخيرة هو اغراق الذهن العراقي و البيئة الاجتماعية و السياسية العراقية بمقولات و نظريات ترسخ قيم الديكتاتورية السياسية المبنية على قاعدة الابوية الاجتماعية من خلال الاندفاع في احد خطين, الاول خط ديني و الثاني خط قومي شوفيني.
الخط الاول يعمل على تقديس القيادة ( متمثلة باشخاص او صفات دينية) وتنزيهها عن اي خطأ و تصويرها غبى انها القيادة الرشيدة الوحيدة لكونها تستمد شرعيتها من مفاهيم دينية , اما الخط الثاني فيضفي صفة حتمية الولاء للقيادات (متمثلة باشخاص) بتصوير هذه القيادات على انها المنقذ و الامل , وهذا ما نجد امثلة في تجارب الاحزاب القومية المتطرفة, وكلا الخطين يسيران بالتوازي و يدفعان للعودة بالوعي الفردي و الجمعي و النكوص به الى مرحلة المثلنة , اي مثلنة الحزب فالقيادة فالشخص, بوضعها في اطار من العصمة و الحصانة ضد النقد و الرقاية, وهذا ما يشوه علاقة المجتمع بالسلطة و يحولها و يمسخها من علاقة نقدية رقابية قائمة على خيارات واعية حرة من جانب المجتمع الى علاقة تبعية و خضوع , ومن ثم احتزال لارادة المجتمع و رغباته وقواه المحركة , في السلطة وما يمثلها من قائد رمز و قائد ضرورة و قائد مفكر و ما شابه ذلك , وكل ذلك يتم بمبررات دينية او قومية يتم تشويهها من قبل قوى تجد في هذا التشويه سبيلا لها لتمرير برامجها و عقائدها من خلال اليات العمل الديمقراطي التي توظفها لصالحها مستغلة انعدام الوعي الديمقراطي لدى الشعب.
في مثل هذه البيئة السياسية و الاجتماعية و بوجود هذه المعطيات يتحول الانسان المواطن من قيمة عليا و مشروع نقدي و تقويمي الى شيء و اداة لتنفيذ مشروع عقائدي دون ان يكون ذلك اختياره , فخياراته مستلبة ووعيه يتم ابتزازه, وفي المقابل نجد قيادات تتعزز سطوتها و مثاليتها المزعومة .
ان آليات العمل الديمقراطي اذا افتقرت الى القوى المحركة الواعية , اي الانسان الديمقراطي الواعي ستصبح آليات للدفع بالعملية نحو الابتعاد عن النموذج الحقيقي للديمقراطية المتكامل و القابل للحياة, وسيكون انعدام التكامل بين بين البنى الفوقية من جهة متمثلة بالمؤسسات و الاجهزة و البنية التحتية من جهة ثانية متمثلة بمجتمع مستوعب لقيم الديمقراطية سيزيد من التباعد بين الحاكم و المحكوم فالسلطة تصر على كونها ديمقراطية و تلوح بمؤسساتها دليلا على ذلك و المواطن لا يقوى على التمييز بين حقه عليها وواجبه لها وللدولة, و يفتقر الى الرؤية الرقابية و الموقف النقدي و خياراته مستلبة نتيجة سطوة دينية او قومية متطرفة بل وحتى منحرفة, فيسقط في هاوية الاذعان.
ان بناء دولة ديمقراطية يبدأ من وضع اسس رصينة تضمن قدرتها على الحياة و هذه الضمانة تتأتى من بناء شخصية انسان ديمقراطي و بالمحصلة بناء مجتمع ديمقراطي يؤمن افراده ان الممارسة الديمقراطية حق ينبع من انسانيتهم ومواطنتهم وكونهم جزءا من المجتمع كمنظومة منتجة للسلطة ورقيبة عليها و ليس نتاجا للسلطة وتابعا لها , وكذلك فان بناء حس نقدي ورقابي وتنمية قيم القبول الواعي و الخيار المدرك و وضع العلاقة مع السلطة في اطارها الصحيح لتكون علاقية نقدية هو من اساسيات التجارب الديمقراطية الناجحة,فنحن ما لم نبدأ من الانسان فسنبقى ندور في حلقة مفرغة و سنبقى ننتج انظمة ديكتاتورية تختلف ظواهرها و تتشابه دواخلها.


Comments

Popular posts from this blog

سوق المواقف الآشورية

قانون اللغات الرسمية .. قراءة آشورية